كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة على غناء القينتين يوم العيد وقال لأبي بكر: «دعهما فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام».
وبأنه صلى الله عليه وسلم أذن في العرس في الغناء وسماه لهوا وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء وأذن فيه وكان يسمع أنسا والصحابة وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا ** على الجهاد ما بقينا أبدا

ودخل مكة والمرتجز يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر فجعل يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الذين قد بغوا علينا ** إذا أرادوا فتنة أبينا

ونحن إن صيح بنا أتينا ** وبالصياح عولوا علينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا

فدعا لقائله.
وسمع قصيدة كعب بن زهير وأجازه ببردة.
واستنشد الأسود بن سريع قصائد حمد بها ربه.
واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية.
وأنشده الأعشى شيئا من شعره فسمعه.
وصدق لبيدا في قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

ودعا لحسان «أن يؤيده الله بروح القدس مادام ينافح عنه» وكان يعجبه شعره وقال له: «اهجهم وروح القدس معك».
وأنشدته عائشة قول أبي كبير الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ** وفساد مرضعة وداء مغيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل

وقالت: أنت أحق بهذا البيت فسر بقولها.
وبأن ابن عمر رضي الله عنهما رخص فيه وعبد الله بن جعفر وأهل المدينة وبأن كذا وكذا وليا لله حضروه وسمعوه فمن حرمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام.
وبأن الإجماع منعقد على إباحة أصوات الطيور المطربة الشجية فلذة سماع صوت الآدمي أولى بالإباحة أو مساوية.
وبأن السماع يحدو روح السامع وقلبه إلى نحو محبوبه فإن كان محبوبه حراما كان السماع معينا له على الحرام وإن كان مباحا كان السماع في حقه مباحا وإن كانت محبته رحمانية كان السماع في حقه قربة وطاعة لأنه يحرك المحبة الرحمانية ويقويها ويهيجها.
وبأن التذاذ الأذن بالصوت الطيب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن والشم بالروائح الطيبة والفم بالطعوم الطيبة فإن كان هذا حراما كانت جميع هذه اللذات والإدراكات محرمة.
فالجواب: أن هذه حيدة عن المقصود وروغان عن محل النزاع وتعلق بما لا متعلق به فإن جهة كون الشيء مستلذا للحاسة ملائما لها لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه فإن هذه اللذة تكون فيما فيه الأحكام الخمسة: تكون في الحرام والواجب والمكروه والمستحب والمباح فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال؟.
وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة وأن لذته لا ينكرها من له طبع سليم: وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد؟ وهل خلت غالب المحرمات من اللذات؟ وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها وأن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها وقال جمهورهم: بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع؟ وهل في التذاذ الجمل والطفل بالصوت الطيب دليل على حكمه: من إباحة أو تحريم؟.
وأعجب من هذا: الاستدلال على الإباحة بأن الله خلق الصوت الطيب وهو زيادة نعمة منه لصاحبه.
فيقال: والصورة الحسنة الجميلة أليست زيادة في النعمة والله خالقها ومعطي حسنها أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها والالتذاذ على الإطلاق بها؟.
وهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة؟
وهل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات والألحان اللذيذات من الصور المستحسنات بأنواع القصائد المنغمات بالدفوف والشبابات؟!.
وأعجب من هذا: الاستدلال بسماع أهل الجنة وما أجدر صاحبه أن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمرا وعلى حل لباس الحرير بأن لباس أهلها حرير وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بهما للرجال: بكون ذلك ثابتا وجود النعيم به في الجنة.
فإن قال: قد قام الدليل على تحريم هذا ولم يقم على تحريم السماع.
قيل: هذا استدلال آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنة فعلم أن استدلالكم بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل لا يرضى به محصل.
وأما قولكم لم يقم دليل على تحريم السماع.
فيقال لك: أي السماعات تعني؟ وأي المسموعات تريد؟ فالسماعات والمسموعات: منها المحرم والمكروه والمباح والواجب والمستحب فعين نوعا يقع الكلام فيه نفيا وإثباتا.
فإن قلت: سماع القصائد قيل لك: أي القصائد تعني؟ ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه وهجي به أعداؤه؟.
فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها وهي التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأثاب عليها وحرض حسانا عليها وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني فقالوا: تلك قصائد وسماعنا قصائد فنعم إذن والسنة كلام والبدعة كلام والتسبيح كلام والغيبة كلام والدعاء كلام والقذف كلام ولكن هل سمع رسول الله وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعضها؟.
ونظير هذا: ما غرهم من استحسانه الصوت الحسن بالقرآن وأذنه له وإذنه فيه ومحبة الله له.
فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد وذكر القد والنهد والخصر ووصف العيون وفعلها والشعر الأسود ومحاسن الشباب وتوريد الخدود وذكر الوصل والصد والتجني والهجران والعتاب والاستعطاف والاشتياق والقلق والفراق وما جرى هذا المجرى مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر بما لا نسبة بينهما وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لايستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين سليبا حريبا وأسيرا قتيلا؟.
وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع وهل يظن بحكيم أن يحرم سكرا لمفسدة فيه معلومة ويبيح سكرا مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب حاشا أحكم الحاكمين.
فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح: خرجوا عن الذوق والحس وظهرت مكابرة القوم فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته ويبيح له مافيه أعظم السقم والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب وسقمها بسكر السماع وكلامنا مع واجد لا فاقد فهو المقصود بالخطاب.
وأعجب من هذا: استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنيتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا؟.
والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك: مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا إستماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟ فيا سبحان الله! كيف ضلت العقول والأفهام؟.
وأعجب من هذا كله: الاستدلال على إباحته بما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحداء المشتمل على الحق والتوحيد! وهل حرم أحد مطلق الشعر وقوله واستماعه فكم في هذا التعلق ببيوت العنكبوت؟.
وأعجب من هذا: الاستدلال على إباحته بإباحة أصوات الطيور اللذيذة وهل هذا إلا من جنس قياس الذين قالوا: 2: 275 {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وأين أصوات الطيور إلى نغمات الغيد الحسان والأوتار والعيدان وأصوات أشباه النساء من المردان والغناء بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كل محبوبة ومحبوب وأين الفتنة بهذا إلى الفتنة بصوت القمرى والبلبل والهزار ونحوها؟.
بل نقول: لو كانا سواء لكان اتخاذ هذا السماع قربة وطاعة تستنزل به المعارف والأذواق والمواجيد وتحرك به الأحوال بمنزلة التقرب إلى الله بأصوات الطيور ومعاذ الله أن يكونا سواء.
والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة: ثلاث قواعد من أهم قواعد الإيمان والسلوك فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار.
القاعدة الأولى:
أن الذوق والحال والوجد: هل هو حاكم أو محكوم عليه فيحكم عليه بحاكم آخر أو ويتحاكم إليه؟.
فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة حيث جعلوه حاكما فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع وفيما هو صحيح وفاسد وجعلوه محكا للحق والباطل فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص وحكموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم وانعكس السير وكان إلى الله فصيروه إلى النفوس فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله وهؤلاء يعبدون نفوسهم.
ومن العجب: أنهم دخلوا في أنواع الرياضات والمجاهدات والزهد ليتجردوا عن شهوات النفوس وحظوظها فانتقلوا من شهوات إلى شهوات أكبر منها ومن حظوظ إلى حظوظ أحط منها وكان حالهم شهوات نفوسهم في الشهوات التي انتقلوا عنها أكمل وحال أربابها خير من حال هؤلاء لأنهم لم يعارضوا بها العلم ولا قدموها على النصوص ولا جعلوها دينا وقربة ولا ازدروا من أجلها العلم وأهله والشهوات التي انتقلوا إليها جعلوها أعلى ما يشمرون إليها فهي قبلة قلوبهم فهم حولها عاكفون واقفون مع حظوظهم من الله فانون بها عن مراد الله منهم الناس يعبدون الله وهم يعبدون أنفسهم عائبون على أهل الحظوظ والشهوات ومزدرون لهم وهم أعظم الناس حظوظا وإنما زهدوا في حظ إلى حظ أعلى منه وإنما تركوا شهوة لشهوة أحط.
فليتدبر اللبيب هذا الموضع في نفسه وفي غيره فكل ما خالف مراد الله الديني من العبد فهو حظه وشهوته مالا كان أو رياسة أو صورة أو حالا أو ذوقا أو وجدا.
ثم من قدمه على مراد الله فهو أسوأ حالا ممن عرف أنه نقص ومحنة وأن مراد الله أولى بالتقديم منه فهو يتوب منه كل وقت إلى الله.
ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله فإن الأذواق مختلفة في أنفسها كثيرة الألوان متباينة أعظم التباين فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد بحسب معتقداتهم وسلوكهم.
فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوق وحال ووجد في معتقدهم بحسبه والنصارى لهم ذوق في النصرانية بحسب رياضتهم وعقائدهم وكل من اعتقد شيئا أو سلك سلوكا حقا كان أو باطلا فإنه إذا ارتاض وتجرد: لزمه وتمكن من قلبه وبقي له فيه حال وذوق ووجد فنذوق من توزن الحقائق إذن ويعرف الحق من الباطل.